فصل: مسألة يغزو أرض العدو فيصنع سرجا ويصنع نشابا فيرمي ببعضها ويبقى بعض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة قسمة الأرض التي أخذت عنوة:

قال مالك: بلغني أن بلالا كلم عمر بن الخطاب في هذا المال بالشام في قسمه- وكان من أشد الناس عليه كلاما، فزعم من ذكر أن عمر دعا عليهم؛ فقال: اللهم اكفنيهم. قال مالك: فبلغني أنه ما حال الحول عليهم- وواحد منهم حي؛ قال ابن القاسم: وإنما كان بلال وأصحابه سألوا عمر أن يقسم لهم الأرض التي أخذت عنوة بين الناس، فأبى ذلك عليهم عمر، قال ابن القاسم: وبلغني عن مالك- أنه قال: ليس من الشأن قسم الأرض، ولكن تترك بحالها؛ وكل ما افتتح بعد عمر من العنوة، فالشأن فيه أن يترك كما فعل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قال سحنون: وحدثني ابن القاسم عن ابن كنانة، أنه كان يقول ذلك، قال سحنون: وأخبرني به ابن نافع عن مالك.
قال محمد بن رشد: ثبت أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمس أرض خيبر وقسمها بين الموجفين عليها بالسواء، وأن عمر بن الخطاب أبقى سواد العراق، ومصر، وما ظهر عليه من الشام؛ ليكون ذلك في أعطية المقاتلة، وأرزاق المسلمين ومنافعهم؛ فقيل إنه استطاب أنفس المفتتحين لها، فمن شح بترك حقه منها، أعطاه فيه الثمن؛ فعلى هذا لا يخرج فعله عما فعله النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- في أرض خيبر، وإلى هذا ذهب بعض أهل العراق؛ وقال إن أقر فيها أهلها لعمارتها كانت ملكا لهم، بدليل ما روي أن عمر وضع الخراج على بياضها وسوادها؛ إذ لو كانت للمسلمين، لكان وضع الخراج على سوادها، بيعا للتمر قبل أن يخلق، وقيل إنه أبقاها بغير شيء أعطى الموجفين عليها، وأنه تأول في ذلك قوله عز وجل في آية الحشر: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]- الآية. وإلى هذا ذهب مالك وجميع أصحابه، خلافا للشافعي في قوله إنها تقسم كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أرض خيبر؛ وقد اختلف على هذا في آية الفيء هذه، وآية الغنيمة التي في سورة الأنفال، فقيل إنهما محكمتان على سبيل التخيير في أرض العنوة بين أن تقسم على ما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أرض خيبر- مبينا لآية الأنفال- أنها على عمومها، وبين أن تبقى كما أبقاها عمر بدليل آية الحشر؛ وإلى هذا ذهب أبو عبيد- وهو قول أكثر الكوفيين أن الإمام مخير بين أن يقسمها- كما فعل الرسول عَلَيْهِ السَّلَامُ في أرض خيبر، وبين أن يبقيها كما فعل عمر في سواد العراق؛ وقيل إن آية الحشر ناسخة لآية الأنفال؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بين بفعله في أرض خيبر- أنها على عمومها في جميع الغنائم من الأرض وغيرها، وإلى هذا ذهب إسماعيل القاضي؛ وقيل إن آية الحشر مخصصة لآية الأنفال ومفسرة لها، ومبينة أن المراد بها ما عدا الأرض من الغنائم، وأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما قسم أرض خيبر؛ لأن الله وعد بها أهل بيعة الرضوان، فقال: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20]. فهي مخصوصة بهذا الحكم دون سائر الأرضين المغنومة؛ وإذا أبقى الإمام أرض العنوة، وأقر فيها أهلها- لعمارتها، ضربت عليهم الجزية على ما فعل عمر في السواد، ووضع عليهم الخراج في البياض بقدر اجتهاد الإمام، وهو وجه قول مالك في المدونة لا علم لي بجزية الأرض، فأرى أن يجتهد الإمام في ذلك ومن حضره إن لم يجد علما يشفيه- أي إن لم يثبت عنده مقدار ما وضع عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عليها من الخراج؛ لأنه إنما توقف في مقدار ذلك؛ وقيل إنه إنما توقف: هل عليها خراج أم لا خراج عليها، وتترك لهم فيستعينون بها على أداء الجزية دون خراج، وقيل إنه إنما توقف فيما يوضع عليها من الخراج: هل يسلك به مسلك الفيء أم مسلك الصدقة، قال ذلك الداودي، وحكي عن ابن القاسم أنه قال: والذي ينحو إليه مالك أن يسلك به مسلك الفيء، وهذا التأويل أبعد التأويلات- عندي؛ وذهب ابن لبابة إلى أن جزية الأرض توضع فيما أوقف الأرض له الإمام، فقال: إنما توقف مالك فيما يصنع بها إذا لم يدر لماذا أوقفها الإمام، ولا إن كانت افتتحت عنوة بقتال، أو عنوة بغير قتال؛ واختار هو إذا جهل ذلك أن يحمل على أنها افتتحت عنوة بقتال، فيكون أربعة أخماس ذلك لورثة من افتتحه- إن عرفوا، وإلا كان سبيل ذلك كله سبيل الخمس، والله الموفق.

.مسألة يعطي الرجل الفرس في السبيل فيهلك الذي دفع إليه قبل أن يخرج:

ومن كتاب أوله باع غلاما بعشرين دينارا:
وسئل مالك عن الرجل يعطي الرجل الفرس في السبيل، فيهلك الذي دفع إليه قبل أن يخرج، فيقول ورثته نحن نغزو عليه ونأخذه؛ قال: لا أرى ذلك لهم، وأرى أن يأخذه صاحبه وينفذه في الوجه الذي جعله فيه في الغزو؛ ولو أنه أعطاه دنانير ثم هلك قبل أن يخرج، رأيتها بتلك المنزلة، يأخذها الذي أعطاها وينفذها في سبيل الله.
قال محمد بن رشد: وإذا قال صاحبه لم أبتله في السبيل، وإنما أردت عين الرجل، وأراد أن يأخذه؛ كان ذلك له على ما مضى في رسم طلق، وإن لم تكن له نية، مضى في السبيل؛ وفي ذلك اختلاف لسحنون في كتاب ابنه فيمن أوصى لفلان بمال في السبيل، فمات فلان قبل أن يأخذه، أنه يرجع ميراثا للورثة؛ وقال مالك، والأوزاعي، ومكحول، إن الورثة يضعونه في السبيل، وهو الذي يأتي على هذه الرواية.

.مسألة حمل على فرس في سبيل الله الانتفاع بشيء منه:

قال: من حمل على فرس في سبيل الله، فلا أرى له أن ينتفع بشيء من ثمنه في غير سبيل الله؛ إلا أن يقال له شأنك به، فافعل به ما أردت، وقال مالك في الدنانير تدفع إلى الرجل في سبيل الله، فيستنفق منها في غزوة ثم يفضل معه منها فضلة؛ قال:
لا أحب له أن ينفقها إلا في غزوه، ولكني أحب أن يردها إلى صاحبها ويجعلها في سبيل الله- إذا هو رجع؛ ولا أرى له أن ينفقها في غزوه، إلا في سبيل الغزو ولا يضعها في غير ذلك- يعني لا يشتري بها- وإن كان في الغزو- إلا ما يجعل في الغزو، ولا يشتري به لامرأته أو بناته شيئا، ولا يضعها في غير ذلك؛ فذكر له حديث ابن المسيب وغيره، فلم ير ذلك، وقال: هذا الذي أرى؛ قال: وأرى لو أن رجلا دفع إلى رجل فرسا، أو ذهبا في سبيل الله، فيقول اصنع بها ما شئت هو لك؛ قال: إن كان قال له ذلك، فأراه لصاحبه مالا من ماله، يعمل به في غزوه إذا هو بلغه ما يعمل به في ماله؛ وإن كان وصى، قال: له ذلك، لم أر أن قول الوصي في ذلك جائز أن يصرفه في غير سبيل الله؛ قال سحنون: جيدة صحيحة.
قال محمد بن رشد: قد تقدمت هذه المسألة في مواضع، ومضى القول عليها موعبا في أول رسم، فلا معنى لإعادته وبالله التوفيق.

.مسألة الرباط وجهاد المصيصة أي ذلك أعجب:

ومن كتاب أوله صلى نهارا ثلاث ركعات:
وسألت مالكا عن الرباط وجهاد المصيصة: أي ذلك أعجب إليك؟ فقال: المصيصة، إلا أن يكون ما عندكم أخوف؛ فإذا كان كذلك، اثر الرجل ناحيته؛ فإن كان فيه غنما، فالمصيصة أحب إلي، ولا أرى أن يقاتلوا إلا أن يدعوا ورأيته يكره التبييت.
قال محمد بن رشد: روي في الرباط فضل كثير، وقد قيل إنه أفضل من الجهاد؛ وقد مضى القول في ذلك في رسم الشجرة تطعم بطنين في السنة، فلا معنى لإعادته. وقوله رأيته يكره التبييت- يريد قبل أن يتقدم إليهم بالدعوة؛ وأجاز التبييت محمد بن المواز، واحتج بقصة كعب بن الأشرف- يريد أن ذلك جائز فيمن قد بلغته الدعوة، إن التبييت تابع لها، فهو لا يجوز حين تجب الدعوة، ويكره حيث تستحب الدعوة، ويجوز حيث لا تجب الدعوة، وقد قيل إن ذلك اختلاف من القول- حيث لا تجب الدعوة، فمرة أجازه، ومرة كرهه، لما جاء من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا جاء قوما بليل لم يغز حتى يصبح، وذلك لوجهين: أحدهما مخافة أن يصيبوا الولدان والنساء. والثاني: مخافة أن يؤتى عليهم في ذلك لجهلهم بالبلد- والله أعلم، وسيأتي القول في الدعوة قبل القتال في أول نوازل أصبغ من هذا الكتاب.

.مسألة النفقة يعطاها الرجل في سبيل الله فيفضل معه فضلة فيريد أن يخرج:

وسئل مالك عن النفقة يعطاها الرجل في سبيل الله، فيفضل معه فضلة فيريد أن يخرج، قال مالك: ليردها إلى من دفعها إليه إن شاء، أو يفرقها في سبيل الله؛ قال مالك: ومن أعطي شيئا في الحج للنفقة، فليرد ما فضل من دفعها إليه؛ إلا أن يكون استؤجر استئجارا، فيكون له ما فضل؛ ومن أعطي شيئا يقسمه في سبيل الله، فليقسمه كما أعطي، فإن لم يجد فليرده.
قال محمد بن رشد: وهذه المسألة متكررة في مواضع، وقد مضى القول عليها- موعبا في أول رسم من هذا السماع، فلا وجه لإعادته.

.مسألة يغزو أرض العدو فيصنع سرجا ويصنع نشابا فيرمي ببعضها ويبقى بعض:

وسئل مالك عن الرجل يغزو أرض العدو فيصنع سرجا ويصنع نشابا، فيرمي ببعضها ويبقى بعض؛ قال مالك: ذلك يسير، ما أرى أن يرد منها شيئا في المقاسم، مثل السرج والنشاب وما أشبهه.
قال محمد بن رشد: قوله ذلك يسير ما أرى أن يرد منها شيئا في المقاسم، يدل على أن الكثير عنده بخلاف ذلك؛ وقد اختلف فيه إذا كان كثيرا على ثلاثة أقوال، أحدها: أنه له بيعه ويخرج به ولا شيء عليه فيه، والثاني: أنه يأخذ إجارة ما عمل فيه والباقي يصير فيئا، وهذان القولان في المدونة. والثالث أن جميعه فيء ولا أجرة له في عمله، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون؛ وأما اليسير فلا اختلاف في أنه له ولا شيء عليه فيه، وهذا الاختلاف إنما هو فيما عمل مما لا ثمن له، أو مما له ثمن على مذهب من يرى أن للرجل أن يأخذ من أرض العدو ما لم يجزه إلى بيوتهم من أشيائهم المباحة، وإن كان له في أرض العدو ثمن مثل المسن والدواء، من الشجر، والطير التي للاصطياد- إذا صادها، وهو قول ابن وهب، وابن عبد الحكم؛ وأما على مذهب من يرى أنه ليس له أن يأخذ شيئا من ذلك- إذا كان له ثمن، وأن ما صاده للأكل، حكمه حكم طعام الغنيمة- إن باع منه شيئا، جعل الثمن في المقاسم، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وعزاه إلى مالك وأصحابه، وقول ابن القاسم في رسم الجواب من سماع عيسى بعد هذا، فيتخرج الحكم أن من عمل من ذلك شيئا على قولين، أحدهما: أنه يرد في المقاسم ولا أجرة له، والثاني: أن يكون له فيه إجارة مثله، والباقي فيئا.

.مسألة مات فرسه أيركب فرسا من خيل العدو ويقاتل عليه:

قيل له: يا أبا عبد الله، أرأيت لو مات فرسه، أيركب فرسا من خيل العدو، ويقاتل عليه ويقفل عليه؟ قال: نعم، أرى أن يقاتل عليه ويقفل عليه، فإذا بلغ بلاد المسلمين، رده في المقاسم.
قال محمد بن رشد: قول مالك هذا، مثل قول ابن القاسم في المدونة، خلاف رواية ابن وهب، وعلي بن زياد عنه- في أنه لا ينتفع بدابة، ولا بسلاح، ولا بثوب، ولو جاز ذلك، لجاز أن يأخذ دنانير فيشتري بها.
قال ابن رشد: وهذا الاختلاف إنما هو فيما عدا الانتفاع بالخيل والسلاح في معمعة الحرب، إذ لا اختلاف في جواز الانتفاع بها في معمعة الحرب؛ وإنما اختلفوا هل له أن يمسكها بعد الحرب حتى ينقضي القتال، ويقفل على الخيل أم لا؟ وقد روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذ دابة من المغنم فيركبها حتى إذا أنقصها ردها في المغانم، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من المغنم، حتى إذا أخلقه رده في المغانم». فمن حمل الحديث على عمومه، منع من ذلك إلا في معمعة الحرب، ومن تأوله فقال: معناه إذا فعل ذلك على وجه الخيانة، أو على غير حاجة إلى ذلك إلا ليقي ماله؟ أجاز الانتفاع بذلك على كل حال- إذا احتاج- قياسا على ما أجمعوا عليه من إجازة أكل الطعام واستهلاكه، لحاجة المسلمين إلى ذلك.

.مسألة يعطى الفرس في سبيل الله أيبيعه:

وسئل مالك عن الذي يعطى الفرس في سبيل الله، أيبيعه؟ قال: نعم إذا كان يريد أن يشتري بثمنه غيره، أو يتكارى بثمنه في سبيل الله؛ فأما أن يبيعه ويأكل ثمنه في أهله، فلا أرى أن يبيعه وهو في غير رباط.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما تقدم في رسم باع غلاما، وفي رسم طلق، وقد قيل إنه محمول على التحبيس حتى ينص أنه أراد بذلك التبتيل، وقد ذكرنا ذلك في أول رسم من هذا السماع.

.مسألة أهل المصيصة لا يقاتلوا حتى يؤذنوا ولا يغار عليهم:

وسئل مالك عن أهل المصيصة إذا أغاروا في أرض الروم، فأتوا حصنا لهم، أترى أن يغيروا حتى يؤذنوا؟ قال مالك: لا أحب لهم أن يغيروا حتى يؤذنوا. فقيل له: فإن الدعوة قد بلغتهم، قال مالك: وإن كان، فإني أرى أن لا يقاتلوا حتى يؤذنوا ولا يغار عليهم.
قال محمد بن رشد: قوله لا أحب لهم أن يقاتلوا حتى يؤذنوا، ولا يغار عليهم- يريد حتى يؤذنوا، أي حتى يعلموا أنهم إنما يقاتلونهم على الدين، لا على الغلبة- وإن كانت دعوة الإسلام قد بلغتهم؛ إذ قد يجهلون ما يقاتلون عليه، فاستحب إذا دخلوا أرض الروم فأتوا حصنا لهم، أن يمسكوا عن الغارة عليهم حتى يدعوهم إلى الإسلام؛ وذلك حسن، لاسيما إن طمعوا أن يجيبوهم إليه، ويدخلوا فيه، وإنما استحب ذلك ولم يوجبه، لاحتمال أن يكونوا قد علموا أيضا على ما يقاتلون، والاستحباب يرجع إلى نفي الوجوب، وهو أحد قولي مالك في المدونة؛ وقد قال يحيى بن سعيد: فيها إن ذلك من الحق عليهم، وسيأتي في أول نوازل أصبغ بيان هذه المسألة- إن شاء الله تعالى، وبه التوفيق.

.مسألة اللينة ماهيتها وهل يجوز قطعها:

قال مالك في قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5]- الآية. قال: اللينة ما سوى العجوة من الثمار من الألوان.
قال محمد بن رشد: قد قيل في اللينة إنها لون من النخل، روي ذلك عن ابن عباس، وقال مجاهد: اللينة النخل كلها: العجوة وغيرها. ويشهد بصحة قول مالك، ما روي عن ابن عباس وغيره: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر بقطع نخل بني النضير إلا العجوة، وذلك لأنها كانت قوتهم الذي يعتمدون عليه، وهي التي جاء الحديث في فضيلتها: قول النبي- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: «العجوة من الجنة»، وثمرها يغذو ما لا يغذو غيره- والله أعلم، فشق ذلك عليهم وقالوا: أنتم تزعمون أنكم تكرهون الفساد وهذا من الفساد، دعوا النخل لمن غلب، فأنزل الله تعالى الآية بتصويب فعل النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ وأن ما أمر به كان عن إذنه عز وجل، وقيل إنهم لما قطعوا بعضا، وتركوا بعضا، سألوا رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ هل لهم أجر فيما قطعوا، أو عليهم وزر- فيما تركوا؟ فأنزل الله الآية، فهي دالة على إباحة القطع، وعلى ألا حرج في الترك؛ وتوقف مالك في المدونة في الأفضل من ذلك، وتأول الآية على أنه لا بأس بالقطع؛ والأظهر أن القطع أفضل من الترك، لما في ذلك من إذلال العدو، وإصغارهم ونكايتهم، وقد قال عز وجل: {وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]. إلا أن يكون بلدا يرجى أن يصير للمسلمين، فيكون التوقف عن القطع والتحريق والتخريب أفضل، بدليل نهي أبي بكر أمراء جيوشه إلى الشام عن ذلك، لما علم أن المسلمين يفتتحونها بقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في الحديث المشهور: ويفتح الشام، فيأتي قوم فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم- لو كانوا يعلمون. وبحضه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الصلاة في بيت المقدس، وبشد المطايا إليها. وما أشبه ذلك من الآثار الدالة على ذلك، وإنما نهى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قطع العجوة؛ لأنها من ثمار الجنة على ما روي عنه- والله أعلم، وبه التوفيق.

.مسألة أوصى بسلاحه في سبيل الله أيعطاه أهل الديوان:

وسئل مالك عن رجل أوصى بسلاحه في سبيل الله، أيعطاه أهل الديوان؟ قال مالك: لست أحب أن يعطاه أهل الغناء، ولكن يعطاه أهل الحاجة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال: إن أهل الحاجة أحق وأولى؛ لأنهم إن لم يعطوا لم يقدروا على الخروج، ففي جعل المال فيهم قوة على الجهاد، واستظهارا على العدو بكثرة العدد.

.مسألة متى فتحت مصر:

قال مالك: فتحت مصر سنة عشرين.
قال محمد بن رشد: اختلف في مصر فقيل إنها افتتحت عنوة، وقال الليث: نحن أعلم ببلدنا، إنما أخذت صلحا، أخبرني بذلك جوهرتا البلدين- يريد ابن حبيب، وعبيد الله بن أبي جعفر.- يعني أن الصلح وقع على أن تكون الأرض للمسلمين- كما فعل النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ببعض أرض الحجاز، لا على أنها تركت لأهلها؛ لأن ذلك لا يبيح الدخول فيها، وقد اختلف في السبب الذي دخل به الليث فيها، فقيل بالاشتراك وقيل بالاكتراء، وقيل بالانقطاع، وإنكار الليث أن تكون أخذت عنوة يدل على أن مذهبه في أرض العنوة، أن تخمس وتقسم، وقيل إنها فتحت صلحا ثم نقضوا، فأخذها عمرو بن العاص عنوة، وبالله التوفيق.

.مسألة يبتاع الفرس فيحمل عليه في سبيل الله ثم يجد به عيبا:

ومن كتاب أوله نذر سنة يصومها:
وسئل مالك: عن الرجل يبتاع الفرس فيحمل عليه في سبيل الله، ثم يجد به عيبا؛ أترى أن يرجع بقيمة العيب على الذي باعه منه؟ قال: إن كان قد مضى وخرج به، فأرى ذلك له؛ وأما إذا كان حاضرا- وكان بيده، فإني أرى أن يرده على الذي ابتاعه منه، ويبدل غيره بموضع ما أنفذه فيه.
قال محمد بن رشد: إنما كان له أن يرده بالعيب إن كان لم يخرج به الذي حمل عليه- وإن كان قد أنفذه في السبيل، من أجل أنه لم يتعين للحمول عليه في عينه حق بالحملان، ولا فات بتحبيس عينه في السبيل، لجواز بيعه وإنفاق ثمنه في السبيل- على ما مضى في هذا الرسم وغيره؛ فأشبه ذلك من اشترى دارا فتصدق بها على المساكين، ثم وجد بها عيبا قبل أن تباع ليفرق ثمنها على المساكين؛ إن ذلك ليس بفوت، وترد بالعيب، ويتصدق بالثمن على المساكين، وعلى القول بأنه محمول على التحبيس، يكون ذلك فوتا، ويرجع بقيمة العيب فيجعله في فرس حبيس، أوفي السبيل- على اختلاف في هذا الأصل، قد مضى في سماع أصبغ من كتاب الضحايا.

.مسألة يأخذ مسن الشيء من أرض العدو:

وسئل مالك عن الرجل يأخذ مسن الشيء من أرض العدو، مثل الحجر والرخام والمسن والدواء، من الشجر، والعصا؛ قال: أما العصا والدواء، فلا أرى به بأسا، وأما الرخام والمسن ففيه شك؛ لأنه لم ينل ذلك الموضع إلا بجماعة الجيش فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: قد قيل إنه لا يجوز له أن يأخذ شيئا من ذلك- إذا كان له ثمن، وقيل إنه يجوز له أن يأخذه وإن كان له ثمن؛ لأنه مما لم يملكه العدو، ولا حازوه إلى بيوتهم- على ما مضى في رسم صلى نهارا ثلاث ركعات، وتفرقة مالك هاهنا بين ما أنبتته الأرض وما لم تنبته، على ما فسر به قول مالك ابن القاسم في المبسوطة قول ثالث، ولا يعضده أصل، وأما ما لا ثمن له من ذلك كله، فلا بأس بأخذه قولا واحدا.

.مسألة توافقوا في الغزو أن يتخارجوا النفقة من عندهم فيأكلون معا:

وسئل مالك عن القوم يغزون في سبيل الله ويرابطون، فيعطى رجل ذهبا في سبيل الله ثم ينزلون جميعا، وربما كانوا جماعة فيخرجون خراجا، ويخرج معهم الذي أعطى والذي أعطي؛ أترى على الذي أعطى شيئا فيما يأكل من أجل الذي أعطي في سبيل الله؟ قال: لا بأس بهذا، وليس هذا مما يتقي؛ وقد قال الرسول، عَلَيْهِ السَّلَامُ في لحم بريرة: هو لها صدقة، وهو منها إلينا هدية. وهذا لا بأس به وهو خفيف.
قال محمد بن رشد: استخف إذا توافق في الغزو الذي أعطى والذي أعطي- أن يتخارجوا النفقة من عندهم، فيأكلون معا، ولم ير ذلك مما يتقى- إذا لم يقصد المعطي أن يأكل أكثر مما أخرج؛ وإنما فعلوا ذلك لما لهم فيه من الرفق، وعلى العادة الحسنة في حسن المعاشرة بين الرفقاء في الأسفار؛ فحجته بحديث بريرة ليست ببينة؛ لأن من أعطى شيئا في سبيل الله، فلا يجوز له أن يرجع فيه ولا في شيء منه بوجه من الوجوه: من شراء، أو عطية، أو هبة، أو صدقة؛ لقوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لعمر بن الخطاب، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذ أراد شراء الفرس الذي كان حمل عليه في سبيل الله، لما أضاعه صاحبه، وأراد بيعه: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم واحد، فإن «الذي يعود في صدقته، كالكلب يعود في قيئه». وإنما الحجة في جواز ذلك، قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ} [البقرة: 220]- الآية.
فأباح للوصي خلط نفقته بنفقة يتيمه- إذا قصد بذلك رفق يتيمه، لا الارتفاق بماله، فكذلك هذه المسألة- سواء، وعلى هذا يأتي قول ابن القاسم في رسم يدير ماله من سماع عيسى من كتاب النذور- إن من حلف ألا يأكل من طعام رجل، فاصطحبا في سفر، واشتريا طعاما فأكلاه؛ أنه لا حنث عليه- إن لم يأكل أكثر من نصيبه، وبالله التوفيق.

.مسألة الجوار بمكة بعد الحج:

ومن كتاب أوله المحرم يتخذ الخرقة لفرجه:
وسئل مالك عن الحج: القفل أحب إليك أم الجوار؟ قال: ما كان الناس إلا على الحج والقفل، ورأيته يرى أن ذلك أعجب إليه، فقلت له: والغزو يا أبا عبد الله؟ فإن ناسا يقولون ذلك، فلم يره مثله، قال: وقد كانت الشام حين افتتحت- وكانت بحال حرب، فأقام فيها غير واحد من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم أبو أيوب، ومعاذ، وبلال، وأبو عبيدة.
قال محمد بن رشد: كره الجوار بمكة بعد الحج، واستحب القفل إثر تمام الحج، بخلاف الغزو- اتباعا للسلف، ولذلك وجه من طريق المعنى، قد ذكرته في رسم صلى نهارا من سماع ابن القاسم من كتاب الحج، فاختصرت ذكره هاهنا اكتفاء بذكره هناك.

.مسألة لإمام الجيش ألا يعجل على أصحابه وأن يكون في وسطهم:

قال مالك: ينبغي لإمام الجيش ألا يعجل على أصحابه، وأن يكون في وسطهم، ويبعث سراياه ليلا يقطع بالناس، وهو يستحب أن يكون في آخرهم، ويقدم الناس، وقد كان عمر بن الخطاب إذا كان في السفر، كان في آخر الناس حتى يقدم المعتل بعيره والضعيف؛ وهذا مما ينبغي لإمام الجيش أن يفعله: أن يكون في آخر الناس، وأن يقدمهم ويرفق بهم، ولا يعجلهم؛ كأنه يقول إذا فعل ذلك، فإن فيه هلاك بعضهم.
قال محمد بن رشد: المعنى في هذا بين، ليس فيه ما يشكل، ومن الحجة في ذلك، قوله- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، «إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم الكبير، والسقيم، والضعيف؛ وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء». وقد روي عنه أنه قال المضعف أمير القوم، لما يلزمهم من الوقوف عليه إذا وقف، والتأخير بسببه إذا تأخر، والسير بسيره إذا سار، وبالله التوفيق.

.مسألة الرجل من الأندلس يريد أن يلحق بالمصيصة وله أهل بالأندلس:

وسئل مالك عن الرجل من أهل الأندلس، أراد أن يلحق بالمصيصة والسواحل- وله ولد وأهل بالأندلس؛ أترى له في ذلك سعة؟ قال: نعم، ثم قال: أيخشى عليهم الضيعة؟ قال: نعم، فكأنه لم يعجبه ذلك حين خاف الضيعة.
قال محمد بن رشد: وهذا كما قال؛ لأن قيامه على أهله وولده وترك إضاعتهم- واجب عليه، بخلاف الغزو والرباط، ولا ينبغي لأحد أن يضيع فرضا واجبا عليه لما هو مندوب إليه.

.مسألة الغزو في البحر:

قال سحنون: أردت غزوا في البحر، فسألت عن ذلك ابن القاسم فنهاني.
قال محمد بن رشد: إنما نهاه- والله أعلم- لأنه علم أنهم كانوا لا يغزون فيه على الصواب، ولا يحافظون فيه على الصلاة في أوقاتها؛ فخشي عليه إن غزا معهم، ألا يقدر على محافظة ما يضيعون، ولا على السلامة مما يصنعون؛ لأن الغزو في البحر إذا كان على السنة وإصابة الحق، فهو من أفضل أعمال البر، بدليل حديث «أنس بن مالك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نام عند أم حرام، ثم استيقظ وهو يضحك، فقالت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتي عرضوا علي غزاة في سبيل الله، يركبون ثبج هذا البحر، ملوكا على الأسرة»، أو مثل الملوك على الأسرة، وأنه دعا لها أن يجعلها منهم بسؤالها إياه ذلك؛ وهذا بين، والله الموفق.

.مسألة هل يرضخ للنساء والصبيان من الغنيمة:

ومن كتاب أوله مرض وله أم ولد فحاضت:
قال ابن القاسم: وسمعت مالكا يقول «لما انهزم أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين، قبضت أم سليم امرأة أبي طلحة الأنصاري على عنان بغلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم قالت يا رسول الله مر هؤلاء الذين انهزموا أن تضرب رقابهم، فقال لها رسول الله: أوخيرا من ذلك يا أم سليم؛ فقيل له أفأسهم لها ولمن كان يخرج مع رسول الله من النساء في مغازيه لدواء الجرحى، أو لغير ذلك؟ فقال: ما علمت أنه أسهم لامرأة في شيء من مغازيه».
قال محمد بن رشد: قوله أو خير من ذلك يا أم سليم- يريد الدعاء إلى الله عز وجل بإنجاز ما وعده به من النصر؛ وكذلك فعل: رفع يديه إلى الله يدعو يقول: اللهم إني أنشدك ما وعدتني ونادى أصحابه وقبض قبضة من الحصى، فحصب بها وجوه المشركين ونواحيهم كلها، وقال: شاهت الوجوه، فأقبل إليه أصحابه سراعا يبتدرون، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآن حمي الوطيس فهزم الله أعداءه من كل ناحية، حصبهم فيها رسول الله عَلَيْهِ السَّلَامُ، وأتبعهم المسلمون يقتلونهم، وغنمهم الله نساءهم وذراريهم وشاءهم، وإبلهم. وفي ذلك يقول تبارك وتعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]- الآية، وقال عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا} [التوبة: 25]- إلى قوله: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 26]. وأما قوله ما علمت أنه أسهم لامرأة في شيء من مغازيه، فهو مما لا اختلاف فيه: أنه لا يسهم للنساء، ولا للصبيان، ولا للعبيد؛ وإنما اختلف هل يرضخ لهم من الغنيمة على غير وجه قسم، فلم ير ذلك مالك رَحِمَهُ اللَّهُ، وذهب ابن حبيب إلى أن ذلك مما يستحب للإمام أن يفعله.